فصل: المبحث الرابع: احتجاج المذنبين بالقدر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


المبحث الرابع‏:‏ احتجاج المذنبين بالقدر

نحن ذكرنا أن كل شيء قد كتبه الله، وكل شيء بمشيئة الله، وكل شيء مخلوق لله، فهل هذا الإيمان يستلزم أن يكون للعاصي حجة على معصية‏؟‏ أولا‏؟‏ كما لو أمسكنا رجلًا يعصي الله، فقلنا له ‏:‏ لم تفعل المعصية‏؟‏ فقال‏:‏ هذا بقضاء الله وقدره، فهذا صحيح، لكن إذا جاء بهذه الكلمة ليحتج بها على معصية، فنقول‏:‏ هذه الحجة باطلة، ولا حجة لك بالقدر على معصية الله ـ عز وجل ـ ودليل ذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ ، فلم يقرهم الله سبحانه على احتجاجهم والدليل على أنه لم يقرهم قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، ولو كان لهم حجة في ذلك ما أذاقهم الله بأسًا‏.‏

ولكن سيورد علينا مورد خلاف ما قررناه، سيقول قائل‏:‏ ألم يقل الله تعالى ‏:‏ ‏{‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 107‏]‏ ، فيكف تقول‏:‏ إن الله أبطل حجة الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ والله - عز وجل - يقول لرسوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 107‏]‏ ‏؟‏

فالجواب‏:‏ هناك فرق بين المراد في الآيتين، أما قوله‏:‏ ‏{‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 106‏:‏ 107‏]‏ ، فهذا تسلية للرسول، صلى الله عليه وسلم، يبين الله له أن شركهم واقع بمشيئة الله، من أجل أن يطمئن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويعلم أنه إذا كان بمشيئة الله فلابد أن يقع، ويكون به الرضا‏.‏

أما الآية الثانية‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ ، فإنما أبطل الله ذلك لأنهم يريدون أن يحتجوا بالقدر على الشرك والمعصية، فهم لو احتجوا بالقدر للتسليم به مع صلاح الحال لقبلنا ذلك منهم، كما لو أنهم عندما أشركوا قالوا‏:‏ هذا شيء وقع بمشيئة الله، ولكن نستغفر الله ونتوب إليه من ذلك، لقلنا‏:‏ أنتم صادقون، أما أن يقولوا حين ننهاهم عن الشرك‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏النعام‏:‏ 148‏]‏، فهذا غير مقبول منهم إطلاقًا‏.‏

ثانيًا‏:‏ ويدل على بطلان احتجاج العاصي بالقدر أيضًا قول الله تعالىحين ذكر الرسل‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163‏]‏ ، قال‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏ ووجه الدلالة بهذه الآية أن القدر لو كان حجة لم تنقطع هذه الحجة بإرسال الرسل، لأن القدر قائم حتى بعد إرسال الرسل، فلما كان إرسال الرسل حجة تقطع عذر العاصي تبين أن القدر ليس حجة للعصاة، ولو كان القدر حجة لهم لبقي حجة لهم حتى بعد إرسال الرسل، لأن القدر لا ينقطع بإرسال الرسل‏.‏

ثالثًا‏:‏ ومن الأدلة على بطلان الاحتجاج بالقدر

أن يقال لمن احتج بالقدر‏:‏ إن أمامه الآن طريقين، طريق خير، وطريق شر، وهو قبل أن يدخل طريق الشر، هل يعلم أن الله قدر له أن يدخل طريق الشر‏؟‏ لا يعلم بلا شك، وإذا كان لا يعلم فلماذا لا يقدر أن الله قدر له طريق الخير‏؟‏‏!‏ لأن الإنسان لا يعلم ما قدره الله إلا بعد أن يقع، لأن القضاء كما قال بعض العلماء‏:‏ ‏"‏سر مكتوم‏"‏، لا يعلم إلا بعد أن يقع ونشاهده فنقول للعاصي‏:‏ أنت أقدمت على المعصية، وحين إقدامك لا تعلم أن الله قدرها لك، فإذا كنت لا تعلم فلماذا لا تقدر أن الله قدر لك الخير فتلج باب الخير‏؟‏‏!‏

رابعًا‏:‏ أن نقول له‏:‏ أنت في شؤون دنياك تختار الخير أم الشر‏؟‏

فسيقول‏:‏ الخير، فنقول له ‏:‏ لماذا لا تختار في شؤون الآخرة ما هو خير‏؟‏‏!‏

ومثل ذلك‏:‏ إذا قلنا له ‏:‏ أنت الآن ستسافر إلى المدينة قال‏:‏ نعم‏.‏ فقلنا له‏:‏ هناك طريقان طريق اليسار غير مسفلت، وفيه قطاع طريق، وأخطار عظيمة، وأما الطريق الأيمن فهو مسفلت وآمن فمن أين ستسافر‏؟‏ بالتأكيد أنه سيقول‏:‏ من الأيمن، فنقول له‏:‏ لماذا في أمور الدنيا تذهب إلى الأيمن الذي فيه الخير والنجاة‏؟‏‏!‏ لماذا لا تذهب مع الطريق الأيسر، الذي فيه قطاع الطريق وغير معبد وتقول ‏:‏ هذا مقدر علي‏؟‏‏!‏ فسيقول‏:‏ أنا لا أعلم المقدر ولكن بنفسي أختار الطيب‏.‏ فنقول‏:‏ لماذا لا تختار في طريق الآخرة ما هو طيب‏؟‏‏!‏

مثال آخر‏:‏ إذا أمسكنا واحدًا من الناس، وبدأنا نضربه ضربًا مبرحًا، وهو يصيح ونحن نقول له‏:‏ هذا قضاء الله وقدره، وكلما صاح ضربناه وقلنا له‏:‏ هذا قضاء الله وقدره، فهل يقبل هذه الحجة‏؟‏ بالتأكيد أنه لن يقبلها، مع أنه إذا عصى الله قال‏:‏ هذا قضاء الله وقدره ولكن نحن إذا عصينا الله فيه ما يقبل أن نقول له‏:‏ هذا قضاء الله وقدره، بل يقول‏:‏ هذا من فعلكم أنتم، أليست هذه حجة عليه‏؟‏ ولهذا يذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -جيء إليه بسارق فأمر بقطع يده، لأن السارق يجب أن تقطع يده، فقال‏:‏ مهلًا يا أمير المؤمنين، فوالله ما سرقت إلا بقضاء الله وقدره، فهو صادق لكن أمامه عمر فقال له رضي الله عنه‏:‏ ونحن لا نقطعك إلا بقضاء الله وقدره، فأمر بقطعه بقضاء الله وقدره، فاحتج عليه عمر بما احتج به هو على عمر‏.‏

فإذا قال قائل‏:‏ إن لدينا حديثًا أقر فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، الاحتجاج بالقدر وهو‏:‏ أن آدم احتج هو وموسى فقال له موسى‏:‏ أنت أبونا خيبتنا أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال له آدم‏:‏ أتلومني على شيء قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني‏؟‏ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فحج آدم موسى، فحج آدم موسى‏)‏، أي غلبه بالحجة مع أن آدم احتج بقضاء الله وقدره‏.‏ فهل هذا الحديث إلا إقرار للاحتجاج بالقدر‏؟‏‏.‏

فالجواب أن نقول‏:‏ إن هذا ليس احتجاجًا بالقضاء والقدر على فعل العبد ومعصية العبد، لكنه احتجاج بالقدر على المصيبة الناتجة من فعله، فهو من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، ولهذا قال‏:‏ ‏"‏خيبتنا، أخرجتنا ونفسك من الجنة‏"‏‏.‏ ولم يقل‏:‏ عصيت ربك فأخرجت من الجنة‏.‏

إذًا احتج آدم بالقدر على الخروج من الجنة الذي يعتبر مصيبة، والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به‏.‏

أرأيت لو أنك سافرت سفرًا، وحصل لك حادث، وقال لك إنسان‏:‏ لماذا تسافر، لو أنك بقيت في بيتك ما حصل لك شيء‏؟‏ فبماذا ستجيبه‏؟‏ الجواب‏:‏ أنك ستقول له‏:‏ هذا قضاء الله وقدره، أنا ما خرجت لأجل أن أصاب بالحادث، وإنما خرجت لمصلحة فأصبت بالحادث، كذلك آدم عليه الصلاة والسلام، هل عصى الله لأجل أن يخرجه من الجنة‏؟‏ لا فالمصيبة إذًا التي حصلت له مجرد قضاء وقدر، وحينئذ يكون احتجاجه بالقدر على المصيبة الحاصلة احتجاجًا صحيحًا، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فحج آدم موسى فحج آدم موسى‏)‏‏.‏

مثال آخر‏:‏ ما تقولون في رجل أصاب ذنبًا وندم على هذا الذنب وتاب منه، وجاء رجل من إخوانه يقول له‏:‏ يا فلان كيف يقع منك هذا الشيء‏؟‏ فقال‏:‏ هذا قضاء الله وقدره‏.‏ فهل يصح احتجاجه هذا أولا‏؟‏ نعم يصح، لأنه تاب فهو لم يحتج بالقدر ليمضي في معصيته، لكنه نادم ومتأسف‏.‏

ونظير ذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعلى فاطمة بنت محمد رضي الله عنها وصلى الله وسلم على أبيها، فوجدهما نائمين، فكأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لامهما لماذا لم يقوما‏؟‏ فقال علي بن أبي طالب‏:‏ يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله فإن شاء الله أمسكها، وإن شاء أرسلها، فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، يضرب على فخذه وهو يقول‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏ فهل الرسول قبل حجته‏؟‏ لا، لكن الرسول، صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، يبين أن هذا من الجدل، لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، يعلم أن الأنفس بيد الله، لكن يريد أن يكون الإنسان حازمًا، فيحرص على أن يقوم ويصلي‏.‏

على كل حال تبين لنا أن الاحتجاج بالقدر على المصائب جائز، وكذلك الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها جائز، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية تبريرًا لموقف الإنسان واستمرارًا فيها فغير جائز‏.‏

المبحث الخامس‏:‏ هل الانسان مسير أم مخير‏؟‏

شاعت كلمة بين الناس في هذا الزمن المتأخر وهي قولة‏:‏ هل الإنسان مسير أم مخير‏؟‏

الأفعال التي يفعلها الإنسان يكون مخيرًا، فالإنسان مخير، فبإمكانه أن يأكل، ويشرب، ولهذا بعض الناس إذا سمع أذان الفجر قام إلى الماء ليشرب، وذلك باختياره، وكذلك إذا جاء الإنسان النوم فإنه يذهب إلى فراشه لينام باختياره، وإذا سمع أذان المغرب، والتمر أمامه والماء، فإنه يأكل باختياره، وهكذا جميع الأفعال تجد أن الإنسان فيها مخير، ولولا ذلك لكان عقوبة العاصي ظلمًا، فكيف يعاقب الإنسان على شيء ليس فيه اختيار له، ولولا ذلك لكان ثواب المطيع عبثًا، فكيف يثاب الإنسان على شيء لا اختيار له فيه‏؟‏‏!‏ وهل هذا إلا من باب العبث‏؟‏‏.‏

إذًا فالإنسان مخير، ولكن ما يقع من فعل منه فهو بتقدير الله، لأن هناك سلطة فوق سلطته ولكن الله لا يجبره، فله الخيار ويفعل باختياره‏.‏

ولهذا إذا وقع الفعل من غير إرادة من الإنسان لا ينسب إليه، قال تعالى في أصحاب الكهف‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 18‏]‏ ، فنسب الفعل ‏{‏نقلبهم‏}‏ إليه سبحانه، لأن هؤلاء نوم فلا اختيار لهم، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه‏)‏‏.‏ فنسب الإطعام والسقي إلى الله، لأن الناسي ما فعل الشيء باختياره فلم يختر أن يفسد صومه بالأكل والشرب‏.‏

الحاصل أن هذه العبارة لم أرها في كتب المتقدمين من السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا في كلام الأئمة، ولا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن القيم أو غيرهم ممن يتكلمون، لكن حدثت هذه أخيرًا، وبدؤوا يطنطنون بها، ‏"‏هل الإنسان مسير أم مخير‏؟‏‏"‏ ونحن نعلم أننا نفعل الأشياء باختيارنا وإرادتنا، ولا نشعر أبدًا أن أحدًا يكرهنا عليها ويسوقنا إليها سوقًا، بل نحن الذين نريد أن نفعل فتفعل، ونريد أن نترك فنترك‏.‏

لكن كما أسلفنا أولًا في مراتب القدر فإن فعلنا ناشئ عن إرادة جازمة وقدرة تامة، وهذان الوصفان في أنفسنا، وأنفسنا مخلوقة لله، وخالق الأصل خالق للفرع‏.‏